عقيدة ناصر السنة المزني

“عقيدة الإمام المزني“


هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق بن مسلم بن نهدلة بن عبد الله المصري، المولود سنة(١٧٥هـ)، والمتوفى سنة(٢٦٤هـ)، ناصر المذهب الشافعي وبدر سمائه.
ترجم له السبكي في طبقاته[١]، فقال:”ﻭﺣﺪﺙ ﻋﻦ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﻭﻧﻌﻴﻢ ﺑﻦ ﺣﻤﺎﺩ ﻭﻏﻴﺮﻫﻤﺎ. ﺭﻭﻯ ﻋﻨﻪ اﺑﻦ ﺧﺰﻳﻤﺔ، ﻭاﻟﻄﺤﺎﻭﻱ، ﻭﺯﻛﺮﻳﺎ اﻟﺴﺎﺟﻲ، ﻭاﺑﻦ ﺟﻮﺻﺎ، ﻭاﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺣﺎﺗﻢ، ﻭﻏﻴﺮﻫﻢ. ﻭﻛﺎﻥ ﺟﺒﻞ ﻋﻠﻢ ﻣﻨﺎﻇﺮا ﻣﺤﺠﺎﺟﺎ. ﻗﺎﻝ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ-ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ-ﻓﻲ ﻭﺻﻔﻪ: ﻟﻮ ﻧﺎﻇﺮﻩ اﻟﺸﻴﻄﺎﻥ ﻟﻐﻠﺒﻪ. ﻭﻛﺎﻥ ﺯاﻫﺪ ﻭﺭﻋﺎ، ﻣﺘﻘﻠﻼ ﻣﻦ اﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻣﺠﺎﺏ اﻟﺪﻋﻮﺓ، ﻭﻛﺎﻥ ﺇﺫا ﻓﺎﺗﺘﻪ ﺻﻼﺓ ﻓﻲ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺻﻼﻫﺎ ﺧﻤﺴﺎ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ ﻣﺮﺓ، ﻭﻳﻐﺴﻞ اﻟﻤﻮﺗﻰ ﺗﻌﺒﺪا ﻭاﺣﺘﺴﺎﺑﺎ ﻭﻳﻘﻮﻝ ﺃﻓﻌﻠﻪ ﻟﻴﺮﻕ ﻗﻠﺒﻲ. ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ اﻟﻔﻮاﺭﺱ اﻟﺴﻨﺪﻱ: ﻛﺎﻥ اﻟﻤﺰﻧﻲ ﻭاﻟﺮﺑﻴﻊ ﺭﺿﻴﻌﻴﻦ.
ﻭﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﺇﺳﺤﺎﻕ اﻟﺸﻴﺮاﺯﻱ: ﻛﺎﻥ ﺯاﻫﺪ ﻋﺎﻟﻤﺎ ﻣﺠﺘﻬﺪا ﻣﻨﺎﻇﺮا ﻣﺤﺠﺎﺟﺎ، ﻏﻮاﺻﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻌﺎﻧﻲ اﻟﺪﻗﻴﻘﺔ، ﺻﻨﻒ ﻛﺘﺒﺎ ﻛﺜﻴﺮﺓ، اﻟﺠﺎﻣﻊ اﻟﻜﺒﻴﺮ، ﻭاﻟﺠﺎﻣﻊ اﻟﺼﻐﻴﺮ، ﻭاﻟﻤﺨﺘﺼﺮ، ﻭاﻟﻤﻨﺜﻮﺭ، ﻭاﻟﻤﺴﺎﺋﻞ اﻟﻤﻌﺘﺒﺮﺓ، ﻭاﻟﺘﺮﻏﻴﺐ ﻓﻲ اﻟﻌﻠﻢ، ﻭﻛﺘﺎﺏ اﻟﻮﺛﺎﺋﻖ، ﻭﻛﺘﺎﺏ اﻟﻌﻘﺎﺭﺏ، ﻭﻛﺘﺎﺏ ﻧﻬﺎﻳﺔ اﻻﺧﺘﺼﺎﺭ. ﻗﺎﻝ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ: اﻟﻤﺰﻧﻲ ﻧﺎﺻﺮ ﻣﺬﻫﺒﻲ. ﻭﻗﺎﻝ اﻟﺮﺑﻴﻊ ﺑﻦ ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ: ﺩﺧﻠﻨﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ-ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ-ﻋﻨﺪ ﻭﻓﺎﺗﻪ ﺃﻧﺎ ﻭاﻟﺒﻮﻳﻄﻲ ﻭاﻟﻤﺰﻧﻲ ﻭﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﺤﻜﻢ، ﻗﺎﻝ: ﻓﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻨﺎ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﺳﺎﻋﺔ، ﻓﺄﻃﺎﻝ ﺛﻢ اﻟﺘﻔﺖ ﺇﻟﻴﻨﺎ، ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﻳﻌﻘﻮﺏ ﻓﺴﺘﻤﻮﺕ ﻓﻲ ﺣﺪﻳﺪ ﻟﻚ، ﻭﺃﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﻣﺰﻧﻲ ﻓﺴﻴﻜﻮﻥ ﻟﻚ ﺑﻤﺼﺮ ﻫﻨﺎﺕ ﻭﻫﻨﺎﺕ، ﻭﻟﺘﺪﺭﻛﻦ ﺯﻣﺎﻧﺎ ﺗﻜﻮﻥ ﺃﻗﻴﺲ ﺃﻫﻞ ﺫﻟﻚ اﻟﺰﻣﺎﻥ، ﻭﺃﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﻣﺤﻤﺪ ﻓﺴﺘﺮﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﻣﺬﻫﺐ ﺃﺑﻴﻚ، ﻭﺃﻣﺎ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﺭﺑﻴﻊ ﻓﺄﻧﺖ ﺃﻧﻔﻌﻬﻢ ﻟﻲ ﻓﻲ ﻧﺸﺮ اﻟﻜﺘﺐ، ﻗﻢ ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﻳﻌﻘﻮﺏ ﻓﺘﺴﻠﻢ اﻟﺤﻠﻘﺔ”.
*صنف كتاب«شرح السنة»، وأبان فيه عن معتقده، وذكر معتقد أهل السنة والجماعة. ولا يخالف ما قرره الأشاعرة من بعده أبدًا. ولا يقول بعكس هذا إلا جاهل، أو كذاب!
*مما قال في كتابه هذا:”ﻭﻛﻠﻤﺎﺕ اﻟﻠﻪ، ﻭﻗﺪﺭﺓ اﻟﻠﻪ، ﻭﻧﻌﺘﻪ ﻭﺻﻔﺎﺗﻪ، ﻛﺎﻣﻼﺕ ﻏﻴﺮ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺕ، ﺩاﺋﻤﺎﺕ ﺃﺯﻟﻴﺎﺕ، ﻭﻟﻴﺴﺖ ﺑﻤﺤﺪﺛﺎﺕ ﻓﺘﺒﻴﺪ، ﻭﻻ ﻛﺎﻥ ﺭﺑﻨﺎ ﻧﺎﻗﺼﺎ ﻓﻴﺰﻳﺪ. ﺟﻠﺖ ﺻﻔﺎﺗﻪ ﻋﻦ ﺷﺒﻪ ﺻﻔﺎﺕ اﻟﻤﺨﻠﻮﻗﻴﻦ، ﻭﻗﺼﺮﺕ ﻋﻨﻪ ﻓﻄﻦ اﻟﻮاﺻﻔﻴﻦ، ﻗﺮﻳﺐ ﺑﺎﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻨﺪ اﻟﺴﺆاﻝ ﺑﻌﻴﺪ ﺑﺎﻟﺘﻌﺰﺯ ﻻ ﻳﻨﺎﻝ، ﻋﺎﻝ ﻋﻠﻰ ﻋﺮﺷﻪ، ﺑﺎﺋﻦ ﻣﻦ ﺧﻠﻘﻪ، ﻣﻮﺟﻮﺩ ﻭﻟﻴﺲ ﺑﻤﻌﺪﻭﻡ ﻭﻻ ﺑﻤﻔﻘﻮﺩ اﻵﺟﺎﻝ”[٢]. ولو لم يُنْقَل عنه هذا النص لكفى-بحد ذاته!-عن بيان حقيقة معتقده!
فقوله:«ﻭﻛﻠﻤﺎﺕ اﻟﻠﻪ، ﻭﻗﺪﺭﺓ اﻟﻠﻪ، ﻭﻧﻌﺘﻪ ﻭﺻﻔﺎﺗﻪ، ﻛﺎﻣﻼﺕ ﻏﻴﺮ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺕ»، مخالف لما قرره المعتزلة وأضرابهم!
وأما قوله عن صفات الله:«ﺩاﺋﻤﺎﺕ ﺃﺯﻟﻴﺎﺕ، ﻭﻟﻴﺴﺖ ﺑﻤﺤﺪﺛﺎﺕ ﻓﺘﺒﻴﺪ»فهو-ولا ريب-مغاير لما قرره أهل الحشو والتجسيم!
وقوله:«ﻭﻻ ﻛﺎﻥ ﺭﺑﻨﺎ ﻧﺎﻗﺼًﺎ ﻓﻴﺰﻳﺪ»،*يدل دلالة صريحة على أنه كان يعتقد أن الله منزه عن العلو الحسي الفيزيائي!
فقد أقر أئمة ينسب الحشوية أنفسهم إليهم، أن الله كان في لامكان. وعليه: فإما أن وجود الله في مكان واجب، أو: جائز، أو: مستحيل.
فإن كان واجبًا، فقد بطل كونه قديمًا لا أول لوجوده، لأن المكان حادث، له بداية، وله نهاية، ووجود الله متعلق به، فلوجود الله بداية! ومن كان لوجوده بداية، فوجوده ممكن، ومن كان ممكن الوجود، فهو حادث، ولابد لكل حادث من محدث، وهذا الحادث لا شك أنه مخلوق مربوب، وما كان كذلك فليس بإله!
وإن كان جائز الوجود في هذا المكان، فإنه يقتضي إمكان وجوده في لامكان، وهذا محال عند الحشوية، لأن المكان من لوازم الوجود، أو: من شروط وجود الله!(=والشرط هو ما يلزم من عدمه عدم وجود الشيء!)، فوجب أن يكون مستحيل الوجود فيه!
كما أن اتصاف الله بهذا العلو الفيزيائي لا يخلو-أيضًا-من كونه: واجبًا، أو: مستحيلًا.
فإن كان واجبًا، فاتصاف الإله به لا بداية له، فالإله قديم، وصفاته الكمالية قديمة كقدم ذاته. وثبوت هذا العلو متوقف على وجود مكان. وهذا المكان إما أنه أزلي أبدي، وإما أنه حادث مخلوق. فإن كان أزليًا، فيلزم منه تعدد القدامى! وهو محال. كما يلزم منه القول بتكذيب النبي-صلى الله عليه وسلم-في قوله:”كان الله ولم يكن شيء غيره”، كما يلزم منه القول أيضاً بـ«عجز الإله عن سلب الوجود عن هذا المكان»، فلو لم يكن عاجزًا، لتمكن من نفي هذا المكان، حتى ينفرد وحده بالوحدانية! وما كان عاجزًا، فهو مخلوق!
فوجب أن يكون حادثًا مخلوقًا، وبحدوثه اتصف الإله بهذه الصفة. فلو كانت صفة كمال، لما تعلقت بشيء خارجي، ممكن الوجود، ويستحيل أن يتصف الإله بما لم يكن متصفًا به.
وأيضًا لو كانت هذه الصفة كمالية، ثم اتصف بها الإله بعد خلق العالم. فهذا الشيء لا يخلو من أمرين: إما أن الإله كان جاهلًا بكونها صفة كمالية. وإما أن هناك أغراض(=أو: أمور)ذاتية، منعته من الاتصاف بها في الأزل!
فإن كان الأمر الأول، فيلزم منه القول بأن هذا«الشيء»ليس عالمًا، والعلم ضد الجهل، وهو«في حق الله تعالى-عند المسلمين-»متعلق بالواجبات والجائزات والمستحيلات، تعلق انكشاف، فإن كان الإله واجب الوجود في مكان، لعلمه، ولاتصف به! واللا عالم ليس قادرًا، واللا قادر ليس مريدًا، وهكذا…وهذه كلها من لوازم الإلوهية! ومن انتفت عنه هذه الصفات، وقد ادعى أنه إله، فقد كذب! ومحال أن ينطبق هذا على رب العالمين!
وأيضًا لو كان الإله جاهلًا، ثم علم، لصح الاطلاق على هذا بـ«العلم الحصولي»، وهذا العلم لا يأتي إلا من الخارج. فالذي«أعلم»الإله بأنه واجب الوجود في مكان، لابد وأنه غيره!
وغير الإله هذا، لابد وأن وجوده واجب، أو: ممكن، أو: مستحيل.
فإن كان واجب الوجود، فهو-كما تقدم-لا بداية له، وليس هو الله الذي خلقه! لأن واجب الوجود غير قابل للنهاية، وما كان كذلك فليس مخلوقًا. وهذا يلزم منه القول بمساواة شيء للإله في أمر عظيم! كما يلزم منه القول بوجود شيء في عالم الموجودات خارج عن قهر الله!
وإن كان مستحيل الوجود، فلا يعقل هذا، إذ أن«علم الإله بكون هذا العلو كمالاً»شيء موجود، والعدم ليس شيئًا، فلا يمكن أن ينتج من اللا شيء شيئًا عظيم القيمة!
وإن كان ممكن الوجود، فلا يخلو من كونه مخلوقًا، ولابد أن خالقه هو الله أو غيره. فإن كان الله خالقه، فقد احتاج الله إلى شيء خلقه! واحتياجه إليه يدل على العجز! والعجز ضد القدرة، والقدرة الكلية من لوازم الإلوهية، فإذا انتفت عن شيء، فليس بإله! ويعني هذا: أن الإله كان قبل أن يخلق هذا المخلوق الذي أدراه بكون العلو الحسي كمالًا، يملك قدرة كلية مطلقة، ثم لما خلق الخلق ضعف، واحتاج إلى شيء يسد جانب الضعف لديه! بمعنى: أن هذا الشيء وهذا المخلوق وغيره موجودات تكاملية! ولا يكون هذا إلا لفقير محتاج! كما أنه تناقض! ومحال أن ينطبق هذا الله-جل جلاله-!
وإن كان خالقه غير الله، فهو باطل، وليس موضع بيان بطلانه هنا!
أما إن كان الأمر الثاني من كون الله لم يتصف بالمكان في الأزل لأمور ذاتية وخارجية، فيعني: أن هذا الشيء قاصر ذاتيًا، عاجز عن الاستغناء عن غيره. ولا يقول ذلك مؤمن بالله رب العالمين.
وعلى هذا: فإن هذا المكان حادث، ولا وجود لصفة العلو(=المسافي!)إلا بوجوده. فيلزم من هذا حدوثها. وما كان حادثًا، فمحال على الله أن يتصف به، لأنه غير ناقص كما قرر المزني-رحمه الله-.
*ويدل أيضًا على أن المزني كان يقر بتنزيه الله عن النزول الحسي الحقيقي اللغوي الظاهر، المقابل للمجاز! لأن النزول مرتبط بوجود السماء الدنيا. أي: لا يصح القول بأن الله نازل، إلا في حال كون السماء الدنيا موجودة. بمعنى: إذا وجدت السماء الدنيا فصفة النزول ثابتة، وإذا انتفت فصفة النزول لا شيء! ولا معنى لها(=كما اعترض الحشوية على الأشعرية وشنعوا عليهم في قولهم: أن الله لافي مكان. فقال الحشوية: أن اللا مكاني هو العدم. فالله عدم عند الأشاعرة!). وعليه: فإما أن وجود السماء الدنيا واجب، أو ممكن.
فإن كان واجبًا، فلا يصح القول بأنها مخلوقة! لأن المخلوق، حادث، ولابد من فاعل فعله، أو حادث أحدثه، وأبرزه من العدم. وهذا تكذيب لصريح كتاب الله!
أما إن كانت ممكنة الوجود، فيعني أن لها بداية ونهاية، وقبل وجودها لم يكن الله متصفًا بصفة تسمى«صفة النزول»، ثم لما أوجدها الله، اكتسب هذه الصفة! وهذا لا يكون إلا لشيء حادث! فصفة النزول حادثة، وما لم يتصف به الإله في الأزل، فلا يصح أن يتصف به بعد خلق المخلوقات.
وكذلك فناء السماء الدنيا(=التي إليها ينزل الله)ممكن، وعليه: فيمكن القول بجواز نفي صفة النزول عن الله في حال عدمها! وهذا يلزم منه تكذيب النبي-صلى الله عليه وسلم-.
*كما أنه يدل على أن المزني كان يقر بتنزيه الله عن الحد. فثبوت الحد متوقف على وجود العالم، والله-تعالى-كان في الأزل وحده، ولا شيء معه، فلم يكن متصفًا بالحد، لأن لازمه لم يكن موجودًا بعد! وكذلك لم يتصف الله بالحد بعد خلق العالم. لأن الله قديم، والعالم حادث، فإن كان الحد صفة كمال، فإن الله متصف به منذ الأزل، وإن كان نقصًا، فإنه محال أن يتصف الله به.
*ويدل أيضًا على أنه كان يعتقد أن كلام الله قديم، ليس بحادث أو مخلوق، لأن كليهما أُبْرِزَ من العدم(=وهذا معلوم، مسلَّم به!)وما لم يكن الله متصفًا به، فليس بكمال، وما هو نقص، فمحال أن يتصف به الإله!
*وهكذا في أغلب المسائل التي قررها الحشوية والمعتزلة وغيرهم!
*وأما قوله:«ﺑﺎﺋﻦ ﻣﻦ ﺧﻠﻘﻪ»، فهو لفظ مجمل. إذ أن البينونة تطلق ويراد بها: التحيز والاعتزال. أو: مطلق المغايرة والمخالفة! ولا يصح التمسك بمثل هذه الأمور في التحقيق العلمي كما هو معلوم! والراجح أن المزني لم يقصد بالبينونة التحيز، فالتحيز هو الحصول في الحيز، والمتحيز هو الحاصل في هذا الحيز، ولا يكون ذلك إلا لشيئين موجودين معًا، وهذا باطل في حق الله! لأنه لو كان كمالًا لاتصف به الإله قبل خلق العالم، والحيز-لا شك-أنه وجد عند خلق العالم، فهو حادث، والله لا يتصف بما كان كذلك!
ومما يؤيد أن مراده بالبينونة المغايرة والمخالفة، كلامه الذي قاله قبل أن ينطق بالبينونة، وهو قوله:«ﺟﻠﺖ ﺻﻔﺎﺗﻪ ﻋﻦ ﺷﺒﻪ ﺻﻔﺎﺕ اﻟﻤﺨﻠﻮﻗﻴﻦ، ﻭﻗﺼﺮﺕ ﻋﻨﻪ ﻓﻄﻦ اﻟﻮاﺻﻔﻴﻦ»، أي: أن صفات الله مخالفة لصفات خلقه، فلا شيء يشبهه أو يماثله!
*وأيضًا مما قرره المزني في هذا الكتاب(شرح السنة!): أن أفعال الله لا تعلل، فقال-متحدثًا عن الله-:”ﺧﻠﻖ اﻟﺨﻠﻖ ﺑﻤﺸﻴﺌﺘﻪ ﻋﻦ ﻏﻴﺮ ﺣﺎﺟﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﻪ”[٣].
*ومما قرره فيه أن الصحابة كلهم عدول، فقال:”ﻭﻳﻘﺎﻝ ﺑﻔﻀﻞ ﺧﻠﻴﻔﺔ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ-ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ-ﺃﺑﻲ ﺑﻜﺮ اﻟﺼﺪﻳﻖ-رﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ-ﻓﻬﻮ ﺃﻓﻀﻞ اﻟﺨﻠﻖ، ﻭﺃﺧﻴﺮﻫﻢ ﺑﻌﺪ اﻟﻨﺒﻲ-ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ-ﻭﻧﺜﻨﻲ ﺑﻌﺪﻩ ﺑﺎﻟﻔﺎﺭﻭﻕ، ﻭﻫﻮ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ اﻟﺨﻄﺎﺏ -ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ-ﻓﻬﻤﺎ ﻭﺯﻳﺮا ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ-ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ-ﻭﺿﺠﻴﻌﺎﻩ ﻓﻲ ﻗﺒﺮﻩ، ﻭﺟﻠﻴﺴﺎﻩ ﻓﻲ اﻟﺠﻨﺔ، ﻭﻧﺜﻠﺚ ﺑﺬﻱ اﻟﻨﻮﺭﻳﻦ، ﻋﺜﻤﺎﻥ ﺑﻦ ﻋﻔﺎﻥ-ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ-،ﺛﻢ ﺑﺬﻱ اﻟﻔﻀﻞ ﻭاﻟﺘﻘﻰ، ﻋﻠﻲ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ-ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻢ ﺃﺟﻤﻌﻴﻦ-. ﺛﻢ اﻟﺒﺎﻗﻴﻦ ﻣﻦ اﻟﻌﺸﺮﺓ اﻟﺬﻳﻦ ﺃﻭﺟﺐ ﻟﻬﻢ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ-ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ-اﻟﺠﻨﺔ، ﻭﻧﺨﻠﺺ ﻟﻜﻞ ﺭﺟﻞ ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻤﺤﺒﺔ ﺑﻘﺪﺭ اﻟﺬﻱ ﺃﻭﺟﺐ ﻟﻬﻢ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ-ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ-ﻣﻦ اﻟﺘﻔﻀﻴﻞ،«ﺛﻢ ﻟﺳﺎﺋﺮ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﻣﻦ ﺑﻌﺪﻫﻢ -ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻢ ﺃﺟﻤﻌﻴﻦ-،ﻭﻳﻘﺎﻝ ﺑﻔﻀﻠﻬﻢ، ﻭﻳﺬﻛﺮﻭﻥ ﺑﻤﺤﺎﺳﻦ ﺃﻓﻌﺎﻟﻬﻢ، ﻭﻧﻤﺴﻚ ﻋﻦ اﻟﺨﻮﺽ ﻓﻴﻤﺎ ﺷﺠﺮ ﺑﻴﻨﻬﻢ، ﻓﻬﻢ ﺧﻴﺎﺭ ﺃﻫﻞ اﻷﺭﺽ ﺑﻌﺪ ﻧﺒﻴﻬﻢ، اﺭﺗﻀﺎﻫﻢ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﻟﻨﺒﻴﻪ، ﻭﺧﻠﻘﻬﻢ ﺃﻧﺼﺎﺭا ﻟﺪينه، ﻓﻢ ﺃﺋﻤﺔ اﻟﺪﻳﻦ، ﻭﺃﻋﻼﻡ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻓﺭﺣﻤﺔ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺃﺟﻤﻌﻴن»”[٥]. وهذا مخالف لمعتقد الرافضة-لعنهم الله-، ولفرقة(=أترفع عن ذكر اسمها)ظهرت في الآوانة الأخيرة! فطعنت في بعض الصحابة وشنعت عليهم وتكلمت فيهم!
*ويمكن تلخيص معتقده بالقول: أنه قرر ما قرره أبو الحسن الأشعري من بعده، وبين ما انتصروا له الأشاعرة ودافعوا عنه! فلا يخالفهم بتاتًا. ومعتقده لا يغاير معتقد الإمام الشافعي(=إمام المذهب!)، وقد بينت عقيدته، وأثبت أنها لا تخالف ما قرره أبو الحسن الأشعري من بعدهما.


وكما قلت آنفًا أن كتاب المزني لا يخالف أو يغاير ما قرره الأشاعرة أبدًا. إلا أن هناك لفظة(=أو لنقل: عبارة!)تمسك بها الحشوية وتعلقوا عليها، وهي في قول المزني:”ﻋﺎﻝ ﻋﻠﻰ ﻋﺮﺷﻪ، ﻓﻲ ﻣﺠﺪﻩ ﺑﺬاﺗﻪ، ﻭﻫﻮ ﺩاﻥ ﺑﻌﻠﻤﻪ ﻣﻦ ﺧﻠﻘﻪ، ﺃﺣﺎﻁ ﻋﻠﻤﻪ ﺑﺎﻷﻣﻮﺭ، ﻭﺃﻧﻔﺬ ﻓﻲ ﺧﻠﻘﻪ ﺳﺎﺑﻖ اﻟﻤﻘﺪﻭﺭ، ﻭﻫﻮ اﻟﺠﻮاﺩ اﻟﻐﻔﻮﺭ{ﻳﻌﻠﻢ ﺧﺎﺋﻨﺔ اﻷﻋﻴﻦ ﻭﻣﺎ ﺗﺨﻔﻲ اﻟﺼﺪﻭﺭ}”[٤].
ولا إشكال في قوله بالعلو هنا، لأنه لفظ مجمل، يحتمل قول الأشعرية، والحشوية، والحلولية، وغيرهم! ولا يصح التمسك بالمجملات في التحقيق العلمي-كما قلت آنفًا-. لكن الراجح أن أبا إبراهيم المزني قصد علو القهر، ونحوه، ولا غير ذلك مناقض له! وقد سبق بيان هذا!
فالاستواء على العرش، لا يخلو من أن يكون: قديمًا بقدم ذات الله. أو حادثًا بحدوث العرش!
وباطل أن يكون الأول على مراد الحشوية، لأن العرش أمر حسي، وليس أمرًا معنويًا، أو: من صفات الله! فبطل أن يكون الاستواء على العرش في الأزل: علم الله بأنه سيخلق عرشًا ويستوي عليه! وكذلك لو كان العرش قديمًا، وكان هذا الاستواء قديمًا بقدم ذات الله، لما صح كون الله قديمًا وحده! بل يلزم منه وجود غيره!
والأمر الثاني باطل عند وضعه في ميزان كلام المزني! إذ لو كان(المعنى!)حادثًا، لكان نقصًا،فلو كان كمالًا، لاتصف الله به منذ الأزل، ومحال أن يفعل ذلك! لأنه يلزم منه أن العرش لا بداية له، ومن كان هكذا فوجوده واجب! كما أن الله لا يتصف بما لم يكن متصفًا به.
فلزم الجمع بين الأمرين: وهو أن الله استوى على العرش بصفته الأزلية! فلم يكسب صفة بعد خلق المخلوقات ولم يفقد! وهذا هو ما قرره الأشاعرة بعينه!
أما لفظة«بذاته»فهي لفظة مبتدعة مخترعة محدثة، لم يرد بها القرآن العظيم، ولم ينطق بها النبي الكريم، وقد اعترف بذلك إمام عظيم في الحشو والتجسيم!
ولو لم يكن إلا هذا الأمر، لكفى في التشكيك بصحتها عن المزني!
ومما يحول«الشك»إلى«يقين»أنها لم تطبق عليها جميع النسخ! ما عدا واحدة!
ومما يزيد الأمر يقينًا أن الذهبي، وصاحبه ابن القيم، نقلا كلام المزني هذا، خال من لفظة«بذاته!»، وكما هو معلوم أن ابن القيم من أحرص الناس في جمع ما يوافق مذهبه ويؤيده! ومع ذلك فلم ينقلها! وسيأتي معك-أيها القارئ-أن المزني قد سئل عن الواجب الذي على المسلم أن يقر به من كون الله على العرش، فأجاب: بأن يقر بأن الله عليه بالسمع والقدرة والعلم! ولم يقل: أنه عليه بذاته!
وحتى لو سلمت بصحتها، فإنها لا تدل دلالة صريحة واضحة على أنها توافق معتقد الحشوية تمامًا! فقد يراد من هذه اللفظة العلو الحسي، وقد يراد بها أن الله بذاته لا غيره، استوى على العرش، سواءً كان الاستواء فعلًا فعله الله في العرش، أو غيره! والأول باطل كما تقدم، فوجب أن يكون الثاني، وهو حق. وممكن أن يقال: أن الضمير في قوله:«مجده»عائد على العرش، العظيم في ذاته، كما قال تعالى:{ذو العرش المجيد}. وسواء كان الحق في هذا الأمر أم ذاك، فليس فيه ما يدل على مخالفته للأشعرية. فإن كان الضمير في قوله:«مجده»، يعود إلى الله، فإنه لا يدل إلا على تنزيه الله عن المكان، فالمجيد هو كثير المجد والتمجيد، وما كان كذلك فليس بحاجة إلى شيء غيره!
*كما أنه قد نُسِبَ إلى الإمام المزني أنه قال:”ﻻ ﻳﺼﺢ ﻷﺣﺪ ﺗﻮﺣﻴﺪ، ﺣﺘﻰ ﻳﻌﻠﻢ ﺃﻥ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﺮﺵ ﺑﺼﻔﺎﺗﻪ. فقيل له: ﻣﺜﻞ ﺃﻱ ﺷﻲء. ﻗﺎﻝ: ﺳﻤﻴﻊ ﺑﺼﻴﺮ ﻋﻠﻴﻢ ﻗﺪﻳﺮ”. وهذا لا يثبت من ناحية السند، ففيه مجاهيل، ورواية المجهول مردودة كما هو مقرر في علم الحديث. وبالرغم من ذلك، فإنه دليل للأشعرية، وليس حجة عليهم. فمن تأمله يدرك أن المزني بعيد-كل البعد-عن المذاهب الباطلة، كالحشوية والحلولية. فلم يقل أن الله«بذاته»على العرش(=بالمعنى الحشوي!)، ولم ينف علم الله. أو: لم يقل: أن الله ليس متصفًا بالسمع والبصر والعلم والقدرة. ولم يقل أحد أنه يخفى على الله ما على العرش! بل هو عليم بما عليه وقادر على أن يفعل به ما يشاء! أو لِنَقُل: أن الله محيط بما على العرش إحاطة كلية تامة. وكما لا يلزم من قول الله-تعالى-لموسى وهارون:{إنني معكما أسمع وأرى}، أن يكون الله على الأرض في بني إسرائيل، أو أن تكون هذه المعية معية حسية، أو: معية ذاتية. فكذلك لا يلزم من قول المزني:«سميع بصير»أن يكون الله بذاته(=كالرجل على دابته!)فوق العرش!
وهذا يفسر كل ما ورد عن السلف في هذا الجانب، بمعنى: أن مرادهم من قولهم بالاستواء على العرش مجمل، ولم يفصله أكثرهم! والإمام المزني من السلف، ولم يذمه أحد منهم، أو يرد عليه شيئًا، فلا يمكن أن يخالفهم. ومرادهم لا يخلو من أن يكون:«أن الله فوق عرشه، كعلو الرجل على دابته»، أو:«أن الله على عرشه، ولا شبيه له في ذلك أو نظير». فإن كان الأول، فهو محال، لأنه يقتضي أن جميع السلف مشبهة، فالكاف في:«كعلو»، من أدوات التشبيه! بل حتى أن أكثر الحشوية لا يصرحون بأن هذا هو مرادهم أصلًا!
فوجب أن يكون الثاني، لأنه لا أحد يملك قدرة كلية، وإحاطة مطلقة، غير الله! وهذا هو ما قاله المزني، وما قرره أبو الحسن الأشعري.
*وقد بحثت، ولم أجد شيئًا تمسك به الحشوية غير ما تقدم ذكره وتفنيده، وقد بان لك-عزيزي القارئ-ضعف ذاك«التمسك»وتهافته!


محمد بن قايد الشافعي.
( ١٤٤٢/٦/١٧هـ).

.
[١]|[طبقات الشافعية الكبرى(٢/٩٤)].
[٢]|[شرح السنة(٧٩)].
[٣]|[المصدر السابق(٧٦)].
[٤]|[المصدر السابق(٧٥)].
[٥]|[المصدر السابق(٨٧)].

اترك رد