وقد كان كتاب “الأم” للإمام الشافعي مادة تراثية ينهل منه الأدباء ينابيع اللغة، وعمق المعاني، وترقية الذوق بنموذج رفيع، فكنتُ أتعجب من صنيعهم، كيف لكِتاب فقهيّ يتخذه المتأدبون مادة أدبية يرقون بواسطته في مستواهم الأدبي؟!
شرعتُ بنفسي في قراءته لأستكشف الأمر، شعرتُ أنّي أقرأ مسائلَ فقهيةً بلغةٍ إبداعيةٍ، وألفاظٍ شموليةٍ، ليس معنى ذلك أنّ قلم الأديب قد جارَ على حقيقة الفقيه، وإنّما ارتفعَ الفقيهُ بأسلوبه الفقهيّ ارتفاعاً بلغَ قمةَ الإبداع، وذروة اختيار الألفاظ، وسموّ إدراك المعاني، وروعة تنوع الأساليب، لتتجلى تلك الحقيقة الغائبة في كون كتب الفقهاء المتقدمين مادة غنية للفقيه والأديب على حدّ سواء، كلٌّ ينهل منها ما يروقه.
لقد استطعتُ مِن خلال كتاب “الأم” أن أملأ فراغاً في رأسي لم يكتمل إلا به، وأهذب طبعاً طالما أرقني، وفي إدمان النظر في أمثاله لذةٌ من غير تعنت، وأسلوبٌ من غير تكلف، وإدراكٌ من غير تحديد.